المسرح العربيمقالات
بين التنظير والممارسة.. فجوة عميقة / لطفي العربي السنوسي

تتقدم الأيام المسرحية سريعا مستعجلة ليالي «ديجمبر الباردة» وفي حضرتها «جمرة الإبداع» وهي مشتعلة على مسارح قرطاج حيث التجارب متفاوتة متواضعة أو عالية النبرة جماليا وفنيّا متأسّسة على بنى ومراجع وحساسيات مختلفة…
هنا المحكّ صعب… لا شفقة ولا عواطف لحظة التلقي… ولا تسامح مع العادي والمتكرّر والكل يبحث عن الدهشة تلك… وقد تطلع من حيث لا نتوقّع… الدهشة «كقدحة إبداع» نادرة وكلحظة خلق بصدد التكوّن هنا او هناك.
لا يبدو المسرح العربي اليوم على ما يرام ولكأنه مع كل تجربة جديدة إنما هو بصدد المجاهرة بأزمته وبصوت عال وهو المحاصر «بثقافة السوق» وبمحامل الفرجة الجديدة والتي تفوقت في الواقع على الممارسة المسرحية من حيث استفادتها ومن حيث قدرتها على استيعاب مختلف تقنيات التكنولوجيا الجديدة التي حولت كل فنون الفرجة إلى سلعة سريعة الاستهلاك لا حكمة فيها ولا تأمّل.
نحن اليوم إزاء «سوق للفرجة المستعجلة» وأمام مزاد رحب لا يضاهى في مدى قدرته على تحويل الذائقة (ذائقة التلقي) وتنميطها واحتوائها بحيث يسهل اختراقها وتطويعها وتوجيهها وسط تحولات اجتماعية وسياسية مذهلة وسريعة بدورها ضربت كل ما هو قيمي وإبداعي في صميمه واستبدلته إما بنسخ السابق وتقديمه على أنه جديد ومبتكر وريادي أو بالانخراط التام في «سوق الفرجة المستعجلة» تحت عناوين مخادعة تدعي التجريب بتخريب المباني المرجعية بعد تخلّصها مما تعتقد أنه قديم ثقيل على الذائقة الاستهلاكية… ولنا في هذه الدورة نماذج لأعمال مسرحية (لا جدوى من ذكر عناوينها تجنبا للحرج) قدّمت على أنها مقترح من باب «التجريب على الكلاسيك» فإذا هي مسخ ممسوخ ومجرّد استعراضات شكلانية فارغة هدّمت نصوصا مرجعية وعلامات كبرى من الريبرتوار العالمي بدعوى التجريب وهي في الواقع وفي العمق وفي النوايا تجيء استجابة لما يطلبه «جمهور السوق السريعة» حوّلت «هاملت» مثلا إلى مهرج في سرك البهجة و»عطيل» إلى بائع خردة متجول وحولت التراجيديات الكبرى إلى مسخرة تتهجّى الحد الأدنى من الممارسة المسرحية وشروطها.
ثمة اليوم أسئلة حقيقية غائبة ومنسية متعلّقة بجوهر الظاهرة المسرحية في البلاد العربية، أسئلة في علاقة بوجودها وبجدوى استمرارها وهي التي تفوقت عليها كل المحامل الجديدة التي خلقت بدورها ومن حولها مجتمعا بذائقة تلق استهلاكية لم يعد يغويها المسرح الذي ضيّع جمهوره عندما قرر صناعه أو بعضهم الانخراط في ثقافة السوق السريعة ومستدعياتها.
ومن المفارقات أن التنظير والبحوث الأكاديمية في المجال المسرحي قد تفوقت أو هي ابتعدت عن طبيعة الممارسة المسرحية ومنجزها ومقترحاتها بل هي تجاوزتها أو بالأصح تخطتها نحو مدارات معرفية شاهقة تبحث فيما بعد الدرامي كما في ندوة الأيام المسرحية في حين لم نحسم بعد «فيما قبل « لكأن «الماقبل» قد أصبح منتهيا وقد أتم مدونته واستوى واكتمل أطروحة في الممارسة والتنظير لنذهب «إلى ما بعده»… وهنا فجوة عميقة بين التنظير والممارسة المتأخرة جدا عن أطروحات النقاد والباحثين الأكادميين.
وما شاهدناه إلى حدّ الآن من التجارب المسرحية يدعو الباحثين إلى النزول قليلا من سماء التنظير إلى أرض الواقع فالفجوة عميقة بين الفعلين.. التنظير والممارسة..!
تعليقات الفيس بوك
Powered by Facebook Comments